المدونة

عزيزة أمير: الحياة المأساوية لأول سينمائية مصرية

  • 1 comment

عزيزة أمير: الحياة المأساوية لأول سينمائية مصرية

تماره معتوق

على مدار ربع قرن، كانت عزيزة أمير واحدة من المواهب المؤسِسة للسينما المصرية. ومثلما كانت معروفة بمسيرتها في التمثيل والإخراج، فقد استقطبت حياتها الشخصية الأضواء أيضاً، بأربع زواجات وعدد من العشاق الغامضين


كثيراً ما لا تتماثل الحياة الشخصية للممثلين مع دراما ومأساة ورومانسية وصخب أشهر أدوارهم التمثيلية. ولكن عزيزة أمير أثبتت الاستثناء من هذه القاعدة بأكثر من شكل، فحياتها لم تكن لتناسب عناوين الصحافة الصفراء وحسب، بل ربما أيضاً كتب التاريخ. فقد مزجت عزيزة أمير بين تحدي المجتمع والنزعة الاستقلالية الشرسة مع تراث مهني هائل، حتى لقبت بـ"مؤسِسَة السينما المصرية".

ولدت مفيدة محمد غنيم بمدينة الإسكندرية في 17 ديسمبر 1901 لأسرة فقيرة تعود أصولها لمدينة دمياط. بعد مولدها بخمسة عشر يوماً فقط، توفي والدها وانتقلت الأسرة بعدها إلى شارع خيرت بالقاهرة، أحد أكثر أحياء مصر حيوية. وتأثرت مفيدة من الناحية الشخصية (ولاحقاً العملية) بهذه الأجواء البراقة من حولها، مما عزز حبها للفن. وحينما لم تكن تقلد الممثلات العالميات أمام المرايا، كانت تجوب الشوارع بحثاً عن متاجر تشتري منها صور فنانيها المفضلين.

اكتنف الغموض العقدين الأولين من حياة مفيدة. وأثار ولعها بالتقرب من الرجال النافذين الكثير من الشائعات، بينما يؤكد البعض أنها تزوجت سراً من سياسي مصري بارز.[1] رفضها الدائم لتأكيد تلك الأقاويل أو نفيها، وسكوتها الدائم عن زواجها الأول، أضفى عليها نوعاً من الخجل الساحر.

بدأت مفيدة حياتها المهنية بأكذوبة جريئة: تظاهرت بأنها فتاة ثرية من الطبقة الأرستقراطية حينما استجابت لدعوة إلى تجارب الأداء من قبل يوسف وهبي، مؤسس فرقة مسرح رمسيس المسرحية.[2] (ربما يمكن اعتبار هذا دورها التمثيلي الأول!) وبعدها اعترفت مفيدة ليوسف وهبي أنها كانت تسرق من الرجل الذي كان يرعاها، مشيرة إلى إيلي درعي، سمسار البورصة الستيني، والذي ارتبط اسمه بالعديد من الفنانات الصاعدات. واعتاد درعي على تقديم مفيدة علانية كعشيقته[3]، وبحسب مفيدة كان رافضاً لرغبتها في التمثيل مما دفعها إلى تركه.

ويلفّ ذات الغموض كيفية حصول مفيدة على دورها التمثيلي الأول. المؤكد هو أن يوسف وهبي كان من أعطاها الاسم الفني عزيزة أمير، وسهل ظهورها المسرحي الأول في 25 ديسمبر 1925 في مسرحية الجاه المُزيَّف، والتي أطلقت عزيزة لعالم النجومية. لأهمية هذا الدور، أصبحت عزيزة الممثلة الأعلى أجراً في مصر بمقابل غير مسبوق وصل إلى 30 جنيهاً مصرياً كل شهر.[4]

أوتوجراف عزيزة أمير لمجلة الكواكب

أوتوجراف عزيزة أمير لمجلة الكواكب

جذبت عزيزة أمير من خلال دورها في مسرحية نابليونيت نظر واهتمام عمدة سمالوط أحمد الشريعي. وشرح الشريعي قائلاً "شعرت برغبة ملحة لمشاهدة المسرحية مراراً وتكراراً"، وأضاف "بنهاية الأسبوع، أدركت أنني كنت أرغب في مشاهدة عزيزة وليس العرض نفسه".[5]

بحلول شهر فبراير عام 1927، تصدر خبر زواج عزيزة من الشريعي العناوين الرئيسية. وكان ارتباطهما محل استهجان أسرة العمدة المحافظة، لتجد عزيزة نفسها نجمة لفضيحة جديدة. وقد أجبرها كل من الوضع الاجتماعي للشريعي والتهديدات المستمرة على ترك مسيرتها المسرحية.

وخفتت معارضة الشريعي لمهنتها، واستعاض عن ذلك بالدعم المادي والعاطفي مما سمح لها ببدء مسيرتها السينمائية. بدأت شركة أفلام إيزيس، الشركة المصرية التي أسسها الزوجان، إنتاجها بصناعة فيلم ليلى. ويُعدّ ليلى أول فيلم روائي طويل بتمويل وتنفيذ مصري، ما كان بمثابة إعلان عن ميلاد السينما المصرية.

تعتبر قصة إنتاج فيلم ليلى درساً في المثابرة وشاهداً على إصرار عزيزة وثقتها بنفسها. في البداية، لم تبد أي من المواهب الفنية رغبة في العمل معها، باستثناء التركي وداد عرفي، والذي كان قد انجذب بشكل أساسي لثروة عزيزة.[6] ووقعت عزيزة عقداً مع عرفي لكتابة وإخراج فيلم نداء الله، كما أنه كان سيقوم بدور البطولة بنفسه.

كان هذا العقد بمثابة التوقيع على طلب لكارثة. ولكنه في ذات الوقت أصبح بمثابة نقطة انطلاق لأحد أهم انتصارات وإنجازات عزيزة. فبعد ثلاثة أشهر من المشاحنات المتواصلة، اكتشفت عزيزة أن عرفي افتقر لأي موهبة أو مؤهلات حقيقية في الإخراج. من هنا، قامت عزيزة أمير بتقليص الوجبات الغذائية المنصوص على تقديمها لعرفي بموجب العقد، مما حرضه وبشكل هزلي على تقديم بلاغ بذلك للشرطة.[7] وقامت عزيزة بعرض فيلم نداء الله على مجموعة من الأصدقاء المقربين والذين تململوا خلال المشاهد الطويلة والمملة للصحراء والأهرامات، ولوداد عرفي نفسه. ربما كانت نصيحة الصديق السينمائي محمد كريم المباشرة هي الأبلغ، حين أوصى عزيزة بحرق الفيلم.[8]

فسخت عزيزة عقدها مع عرفي وبدأت المشروع من جديد تحت اسم ليلى. وأصبح الفيلم الآن في عهدة ستيفان روستي كمخرج للعمل مع المصور الإيطالي توليو تشياريني. عُرِضَ ليلى لأول مرة في سينما متروبول بالقاهرة في 16 نوفمبر 1927، وكان بمثابة مناسبة وطنية كبيرة. وكان المصرفي المصري الشهير طلعت حرب قد نصح عزيزة في السابق أن تتخلى عن حلمها المستحيل، إلا أنه جاء في هذا اليوم لتهنئتها قائلاً "لقد نجحت فيما لم ينجح في تحقيقه أي رجل".[9] في ذلك الوقت، لم يكن ليوجد ثناء أهم مما قاله طلعت حرب. ومنذ تلك اللحظة، لقبت عزيزة أمير بمؤسسة السينما الوطنية.

جذب النجاح المادي لفيلم ليلى اهتمام العديد من رواد ورجال الأعمال الطموحين لتكرار إنجاز عزيزة. وشُيِّدت الاستوديوهات، ومُوِّلت شركات الإنتاج، وأنتجت الأفلام وصُدِّرت للخارج وبُعث بالطلبة لدراسة السينما في الخارج. ولكن كل هذا لم يضمن لمنافسيها ولو جزء بسيط من النجاح والإشادة التي حظيت بها عزيزة. وكررت عزيزة نجاحها بإنشاء مجمع ستوديو هليوبوليس وإنتاج ثاني أفلامها.

كان المجتمع المصري محل التركيز مجدداً في فيلم بنت النيل عام 1929، وفيه انتقدت عزيزة بشجاعة التنميط العنصري بأن "النساء المصريات رجعيات ومتغطرسات". وفيه تُقدِم البطلة، الفتاة المصرية البريئة الشابة، على الانتحار عن طريق إلقاء نفسها في النيل. وتشابهت هذه النهاية بالنهاية الأصلية لفيلم ليلى، وكذلك لفيلم آمنت بالله بعدها بعشر سنوات، والتي تتمثل بموت البطلة في نهاية الفيلم. فهل كانت تلك النهايات الموجعة والقاتمة انعكاساً لحالة من اليأس العام؟ على الأرجح، كانت دليلاً ملموساً على الاكتئاب المزمن الذي عانت منه عزيزة والذي كانت تحاول أن تجد له علاجاً.[10] تلك المآسي المصحوبة بالانتصارات كانت الدرس الثابت في حياة عزيز أمير.

عزيزة أمير في لقطة من فيلم الورشة، 1940
عزيزة أمير في لقطة من فيلم الورشة، 1940

قامت عزيزة بتوسيع مكانتها الإقليمية من خلال المشاركة في أفلام أجنبية، مثل دورها في الفيلم الفرنسي الفتاة التونسية عام 1931، والفيلمين التركيين الكاتب المصري وشوارع إسطنبول عام 1932. وربما كانت حاجتها إلى تلك الأدوار المربحة مدفوعة بتعثر مالي: فقد أصرت عزيزة على إنتاج فيلم صامت في وقت كانت تتزايد فيه هيمنة الأفلام الناطقة. هذا الفيلم تسبب لها في الكثير من الإحراج، حيث فشل بشكل واضح وخلف ضرراً شديداً من الناحية المادية والمهنية.

ثم كانت علاقة عزيزة بالشريعي الضحية التالية لتقلباتها غير المتوقعة، فقامت بالانفصال عنه في 1933. وبعدها ظهرت فضيحة صغيرة أخرى عندما تزوجت بعدها من أخيه الأصغر مصطفى الشريعي – ولكن هل كنا نتوقع أقل من ذلك من نجمة جامحة مثلها؟[11] وبشكل عام، تعد فترة الثلاثينات من القرن الماضي عقداً ضائعاً من حياة عزيزة، فقد انتقدت أفلامها بشدة من قبل النقاد والجمهور، كما خسرت كل ما تملك واضطرت لبيع الاستوديو. ومع أواخر الثلاثينات، وفي العام 1939 بالتحديد، قامت عزيزة بدور البطولة في فيلم بائعة التفاح، ومن خلاله تعرفت على زوجها المستقبلي وآخر أزواجها محمود ذو الفقار. تمت الترتيبات الخاصة بطلاقها من مصطفى الشريعي بعد وقوعها في غرام ذو الفقار، الممثل الوسيم صاحب الـ 23 عاماً. وعُرِف عن ذو الفقار سوء معاملته لعزيزة في الكثير من الأوقات، ولكن بالرغم من ذلك كانت دائماً ما تقول عنه أنه حُب حياتها.[12] لكن مجدداً، ساد اليأس على سعادة عزيزة.

أسس محمود ذو الفقار وعزيزة أمير سوياً شركة أفلام عزيزة، وكان لهذه الشراكة بينهما تأثير ضخم فنياً وتجارياً على السينما المصرية. كما كانا من رواد تقديم موضوعات حيوية سياسية وجدلية، فكانت عزيزة أول من قدمت القضية الفلسطينية في السينما العربية من خلال فيلمها فتاة من فلسطين عام 1948، ثم فيلم نادية عام 1949.[13]

في أوائل الخمسينيات، اكتشفت عزيزة أنها تعاني من مرض عضال، فاعتزلت التمثيل وركزت جهودها على كتابة سيناريو وحوار فيلم خدعني أبي. ولم تُصرح عزيزة عن حسرتها على أي شيء سوى عدم تجربة الأمومة؛ قليلون من علموا آنذاك أنها حملت مرة واحدة، ولكن مات مولودها بعد دقائق من الولادة.[14] لعل هذه الحسرة كانت الدافع لقيامها بدور البطولة لمرة أخيرة في فيلم آمنت بالله، والذي ناقش هذه القضية. لكن لم تعش عزيزة ما يكفي لتشاهد العرض الأول للفيلم، حيث توفيت في 28 فبراير 1952.

عزيزة أمير في آخر ظهور لها على الشاشة. لقطة من فيلم آمنت بالله، 1952
عزيزة أمير في آخر ظهور لها على الشاشة. لقطة من فيلم آمنت بالله، 1952

بالنظر إلى إرثها السينمائي الثري، من المهم أن نتذكر أن السينما التي قدمتها عزيزة لم تكن بشكل أساسي سينما نسوية. فقد تمحورت أعمالها حول حياة النساء المصريات، ولكنها لم تعكس أي موضوعات نسوية أو دعوة لحقوق المرأة. كما تأثرت صورة المرأة في أفلامها بشكل كبير بالأنماط المحلية الطاغية، والتي كانت أمراً مفروغاً منه في سينما يهيمن عليها الرجال. وكثيراً ما جسدت أدوارها الصلابة في وجه المعاناة والمثابرة الروحية والرضا بما يحمله القدر.

إن ما حققته عزيزة أمير من إنجازات مهنية لا يدع مجالاً للشك في كونها، بلا منازع، مجددة ورائدة السينما المصرية. على الرغم من هذا، كانت حياتها الشخصية الصاخبة والمتنوعة تحتوي على دراما وإثارة تفوق أي من أدوارها التمثيلية. وقد ساهم كلاهما في الارتقاء بها لمكانة رمزية كأيقونة وثروة قومية مصرية.


[1] المسرح، 31 يناير 1927.
[2] روز اليوسف، 8 ديسمبر 1927.
[3] المسرح، 2 مايو 1927.
[4] المسرح، 16 مايو 1927.
[5] المسرح، 2 مايو 1927.
[6] المسرح، 3 يناير 1927.
[7] مجلة اللطائف المصورة، 662 (1927). مقتبس في الغندور، سلطانة الشاشة، 74.
[8] روز اليوسف، 22 ديسمبر1927.
[9] ريبيكا هيلاير، موسوعة السنيمائيات العربيات (القاهرة: مطبعة الجامعة الأمريكية بالقاهرة، 2005)، 28.
[10] خضعت عزيزة للعلاج النفسي أكثر من مرة. بحسب تصريحها، مكثت في مصحة لأول مرة أثناء زيارتها لأوروبا لمدة ثمانية أشهر. روز اليوسف، 8 ديسمبر 1927.
[11] الصباح، 355 (1933).
[12] الغندور، سلطانة الشاشة، 106.
[13] أنتجت عزيزة جميع أفلامها. قامت بالتمثيل في بعضها، وكتبت السيناريو لبعضها، وساعدت في إخراج ومونتاج عدداً منها.
[14] الغندور، سلطانة الشاشة، 117.

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك آخر المقالات وإصدارات الملصقات والعروض الخاصة.

Share this
Newer Post