المدونة

السينما السورية: ضحكات العالم العربي وهمومه

  • 0 comments

السينما السورية: ضحكات العالم العربي وهمومه

جوان ملا

عندما نفكّر بما قدّمه السوريون للشاشة، قد تخطر في بالنا الدراما السورية، فنعود بالذاكرة لنرى أنفسنا متسمرين أمام شاشة التلفاز بانتظار حلقة جديدة من أحد مسلسلاتنا المفضلة، بكل ما تحمل من مشاهد ظريفة، وحوارات ممتعة، وشخوص مرحة تجسد مبادئ من زمنٍ جميل. ولكن قبل أن تدخل الدراما السورية بيوتنا، فقد دخلت قلوبنا لأول مرة عن طريق الشاشة الكبيرة، بمجموعة من الأعمال السينمائية الخالدة، التي كانت الكوميديا نقطة انطلاقها، وسرعان ما توسّعت وغطّت العديد من المواضيع الاجتماعية والسياسية أيضاً، سواء على نطاق محلي أو إقليمي، أو حتى عالمي في بعض الأحيان. واليوم، نجد في تاريخ السينما السورية كنزاً من الأعمال التي يمكننا زيارتها مجدداً، كلما زارنا الحنين.

دريد ونهاد: «لوريل وهاردي العرب»

في عشرينيات القرن العشرين، ظهر الثنائي السينمائي الشهير «لوريل وهاردي» كشخصيتين كوميديتين تقدمان لحظات من التسلية في سينما صامتة، وهو أصعب ما يمكن فعله. بعد عقود على هذه الظاهرة، استنسخت السينما السورية من هذين البطلين ثنائياً هو دريد لحام ونهاد قلعي. لكن دريد ونهاد لم يصمتا، بل تكلما بالكثير وأجادا زرع الضحكة في القلوب.

ملصق فيلم «اللص الظريف» (1970)، من تصميم راغب

ملصق فيلم «اللص الظريف» (1970)، من تصميم راغب

حكاية دريد ونهاد مليئة بمغامرات سينمائية وتلفزيونية. التقى الثنائي في البداية في سهرة تلفزيونية أيام الوحدة بين سوريا ومصر وانطلاق الشاشة الصغيرة، وبدأت الرحلة بعدها ليقدما شخصيتي "غوار الطوشة" لدريد و "حسني البورظان" لنهاد. وبقيت هاتان الشخصيتان ملازمتان لهما في أغلب الأعمال السينمائية التي قدماها.

وقد ساهمت الكوميديا في وضع حجر الأساس للسينما السورية عموماً، وذلك باعتبارها أداة ترفيه للمجتمع ومتنفس للناس في وقت لم تكن التلفزيونات في المنازل حالة عامة كما اليوم. لذا كانت الشاشة الذهبية المكان الأمثل لقضاء ساعات من التسلية مع الأهل والأصدقاء، ولا سيما أعمال دريد ونهاد التي كانت في مجملها بعيدة عن الإباحية ومقبولة لدى العائلة السورية. فحتى المشاهد الرومانسية كان يتم استخدامها بطريقة كوميدية لطيفة وغير خادشة للحياء.

ملصق فيلم «فندق الأحلام» (1968)، مصمم غير معروف

ملصق فيلم «فندق الأحلام» (1968)، مصمم غير معروف

صُنع «عقد اللولو» (1964) وبدأت القصة، فيلم سينمائي لعب بطولته دريد ونهاد بمشاركة الشحرورة صباح والمغني فهد بلان، ليحقق الفيلم إيرادات عالية وقتها. ثم فُرِطَ حَب اللولو بعدها لتشكل كل حبة مجموعة أفلام قدمها هذا الثنائي، جمعتهما مع عدد من الفنانين من سوريا ومصر ولبنان وتركيا. فقد كان هناك «لقاء في تدمر» (1965) الذي تحدث عن قصة حب جرت أحداثها بين آثار منطقة عتيقة، فكان العمل خليطاً كوميدياً رومانسياً مشبعاً بمشاهد لمعالم سياحية عن مدينة من أعرق المدن التاريخية.

ولم تتوقف القصة داخل الحدود السورية بل كان دريد ونهاد على موعد مع «غرام في اسطنبول» (1966) بتركيا. وكما خرج الفنانان من سوريا، استقطبا أيضاً العرب لها، فجاءت شادية لتغني «يا طيرة طيري يا حمامة» في قطار الحجاز الدمشقي العتيق، والذي يصل دمشق بريفها وسط مناظر خلابة، وذلك في فيلم «خياط للسيدات» (1969). وعادت صباح لتلتقي دريد ونهاد في فيلم «المليونيرة» (1966)، وتقدم نفسها وسط مجموعة من الأغاني الجميلة التي سمعها الناس منها في هذا الفيلم. ولا بد هنا من ذكر العصابة المحتالة التي كانت في فيلم «النصابين الثلاثة» (1968)، والتي سعت لسرقة غوار بعد أن أصبح ثرياً، ليدور صراع أبطاله نهاد قلعي والفنانَين المصريَّين فريد شوقي ونبيلة عبيد، مع حضور مميز للمغنية اللبنانية طروب.

ولعل أشهر ما قدمه غوار وحسني هو فيلم «صح النوم» (1975)، الفيلم الملوّن الذي استند إلى قصة المسلسل الشهير الذي حمل نفس الاسم، ورسم شخصيات كوميدية لا تزال حية في ذاكرة الناس حتى اليوم. من هذه الشخصيات «أبو عنتر»، شخصية «القبضاي» الذي استطاع الفنان الراحل ناجي جبر ترسيخها في أذهان الناس، و «فطوم حيص بيص» التي كان صراع الحب قائماً عليها بين حسني وغوار ولعبت شخصيتها الفنانة الراحلة نجاح حفيظ. وطبعاً لا ينسى أحد سذاجة ولطافة الفنان ياسين بقوش بشخصية «ياسين»، وأيضاً «بدري بيك أبو كلبشة» رئيس المخفر الذي لعب دوره الفنان السوري الراحل عبد اللطيف فتحي. ومن بين كل أعمال الثنائي، كان لفيلم «صح النوم» أثره الخاص وحقق نجاحاً كبيراً لا سيما أغنية الختام «فطومة» التي غناها غوار في نهاية الفيلم داخل السجن.

ملصق فيلم «صح النوم» (1975)، من تصميم جسور

ملصق فيلم «صح النوم» (1975)، من تصميم جسور

حكاية دريد ونهاد لا تنتهي عند هذا الحد، فالقائمة تطول كثيراً، وهما جزءٌ أساسي لا يتجزأ من سينما سورية كانت في غالبها كوميدية. قدمت هذه السينما للجمهور ضحكة نابعة من القلب ورسائل لطيفة تمررها بين السطور بدون تعقيد أو رمزيات، فخلق الثنائي بهذا حالة من المتعة والانتشار وعرفا كيف يقدّران الجمهور العربي ويُسَلّيانه.

«إغراء» المشاهَدة

حين نتحدث عن السينما السورية لا بد أن يخطر على بال الناس اسمها، هي الفنانة السورية نهاد علاء الدين، المعروفة فنياً باسم «إغراء». كان لها بصمة واضحة في السينما السورية: أنتجت، كتبت، مثّلت، فكانت امرأة متعددة المواهب. وتصدرت أفلامها شبابيك التذاكر في سوريا في السبعينيات والثمانينيات مع انتشار حركات التحرر، حيث استثمرت إغراء ذلك في الترويج لأفلامها التي كانت لا تخلو من مشاهد إباحية بعض الشيء، وهذا ما دفع الناس للتوجه نحو مقاعد السينما ليشاهدوها.

ورغم أن الكثير من هذه الأفلام كان تجارياً بحتاً، استطاعت إغراء إيصال بعض الأفكار في أعمالها، كفيلم «أموت مرتين وأحبك» (1976)، الذي سلط الضوء على الطريقة الدونية في التعامل مع المرأة وتكريس العادات والتقاليد البالية ليلة الدخلة. ووضحت إغراء في هذا الفيلم طريقة تفاني المرأة في بيتها مع زوجها البسيط العامل والوقوف معه جنباً لجنب، لتشكل مع الفنان ناجي جبر حالة من التناغم.

ملصق فيلم «أموت مرتين وأحبك» (1976)، مصمم غير معروف

ملصق فيلم «أموت مرتين وأحبك» (1976)، مصمم غير معروف

ولا ينسى الكثير من رواد السينما حتى اليوم فيلم «الفهد» (1972)، الذي قدمت فيه إغراء مشهداً إباحياً في الغابة وهي متعرية بالكامل. وبقي هذا المشهد حديث الناس أكثر من تفاصيل الفيلم ذاته. الفيلم مأخوذ عن رواية كتبها حيدر حيدر لقصة فلاح بسيط ناضل ضد الإقطاع الذي يُعتبر امتداداً للاستعمار، وقد نال عدة جوائز داخل سوريا وخارجها. أما فيلم «المغامرة» (1974) فهو يعتبر من أهم الأعمال التي قدمتها إغراء بالمشاركة مع الفنان أسامة الروماني، وهو مأخوذ عن مسرحية «رأس المملوك جابر» للكاتب الكبير سعد الله ونوس، وهي مسرحية مثيرة للجدل لما فيها من أفكار سياسية جريئة تطرح قضايا شائكة.

ولم تتوقف إغراء عن كتابة وإنتاج وتمثيل الأعمال التي كتبتها، بل قامت أيضاً بإخراج عدة أفلام منها فيلم «بنات الكاراتيه» (1981) الذي لعبت بطولته بنفسها. ولكن لم تكن تجربة إغراء الإخراجية ناجحة كما التمثيل والإنتاج. ولعل أهم أفلام إغراء وشقيقتها فتنة في السينما السورية هو فيلم «عاريات بلا خطيئة» الذي يجسد واقع مجتمع نساء يعانين من سلطة ذكورية تجبرهن على اتخاذ طريق لا يشبههن. وعن المرأة أيضاً كان لإغراء والفنانة غادة الشمعة فيلم «بنت شرقية» (1986) الذي تحدث عن نظرة الناس للمرأة الجميلة واعتبارها صيداً سهلاً ومتاحاً للرجال، لينفي الفيلم تلك القوالب الاجتماعية الجاهزة.

جرأة إغراء وأعمالها استقطبت الكثيرين لشبابيك التذاكر في سوريا، ليس لجرأة بعض المشاهد فحسب، بل لأنها أيضاً قدمت قصصاً من قلب المجتمع السوري في تلك الحقبة، ولتسليطها الضوء على المرأة وقضاياها بالتحديد. ربما لم تعالَج هذه القضايا بطريقة ذكية وكانت الإباحية باباً في أفلامها لجذب الناس، لكن رغم ذلك تركت إغراء بصمةً في مسار السينما السورية في السبعينيات والثمانينيات.

القضايا السياسية والاجتماعية في السينما السورية

لا يُنكَر أن غالبية الأفلام التي ذكرناها والتي قدمها دريد ونهاد وحتى إغراء يصبغ عليها طابع الكوميديا التجارية، ولا تخلو من الاستعراض والإباحية، ولم يكن غالبها قد قدم رسائل عميقة، بل كانت الفكرة بسيطة وخلت حتى في بعض الأحيان من رسالة واضحة. لكن ذلك لا يمكن تعميمه على ما أنتجته السينما السورية من أعمال كانت تحاكي واقع المجتمع والقضايا العربية السياسية والاجتماعية، بعيداً عن مشاهد الإغراء أو تقديم الكوميديا من باب الترفيه وزرع الضحكة فقط.

فإذا شاهدنا أعمال الفنان دريد لحام التي خرج فيها من عباءة غوار وقدم من خلالها شخصيات مختلفة، نجد أن هناك أفلاماً مهمة حاكت واقعاً عربياً مريراً. وربما أشهرها فيلم «الحدود» (1984) الذي يناقش قضية فقدان الهوية وجواز السفر وتقطيع أوصال الدول العربية المتجاورة. وكانت تجاوره البطولة النجمة السورية رغدة والتي أعاد الشراكة معها في فيلم «التقرير» (1986) الذي لعب بطولته بشخصية عزمي بيك الذي يُفصَل من عمله بسبب رفضه لتوقيع مشروعٍ يتضح أنه يسرق من المال العام، فيقرر أن يكتب تقريراً للجهات العليا ليصف لهم ما جرى.

ملصق فيلم «التقرير» (1986)، مصمم غير معروف

ملصق فيلم «التقرير» (1986)، مصمم غير معروف

أما فيلم «كفرون» (1990)، فهو يحاول نبذ العادات القبلية البغيضة كالأخذ بالثأر، والسعي للخروج عنها بالعلم والتعليم وزرع المحبة. وقد طغت اللمسة الطفولية على هذا الفيلم باعتبار أن ودود بطل القصة يعمل كحارس مدرسة ابتدائية. وقدم دريد لحام لاحقاً فيلماً  مهماً محوره الأطفال بعنوان «الآباء الصغار» (2006) مع الفنانة المصرية حنان ترك.

ولم يكن لحام الوحيد الذي صنع أفلاماً قدمت رسائل هامة سواء وطنية أو اجتماعية. فقد كان في فيلم «ضياع في عيون خائنة» (1989) للفنانين أديب قدورة وسمر سامي ونجاح حفيظ رسالة هامة هدفها الحفاظ على الأسرة من شتاتها نتيجة نزوة عابرة قد يقترفها الرجل بحق زوجته وأولاده. كما تطرق فيلم «أمطار صيفية» (1984) لقصة حب ينهيها زواج إجباري تتعرض له بطلة القصة نادية، لتبدو البنت وكأنها صفقة بين أبيها وخاطبها مقابل المال. وطبعا لا بد من ذكر فيلم «ليالي ابن آوى» (1988) للمخرج عبد اللطيف عبد الحميد، والذي تحدث عن عائلة ريفية مشرذمة يعاني كل فرد فيها من مشاكله الخاصة، ويُعتبر هذا الفيلم من أهم الأعمال الاجتماعية في تاريخ السينما السورية.

ولفلسطين حصة دائمة لدى السوريين في السينما والتلفزيون. فقد روى فيلم «المتبقي» (1995) المأخوذ عن رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» حكاية طفل فلسطيني سرقه المستوطنون من أهله وغيروا اسمه وهويته كما غيروا اسم وهوية فلسطين، في دلالة رمزية على عبث الاحتلال في بلاد لم تكن يوماً ملكه.

ملصق فيلم «المتبقي» (1995)، من تصميم هاني بعيون

ملصق فيلم «المتبقي» (1995)، من تصميم هاني بعيون

السينما هي صورٌ مختلفةٌ ملأى بحكايا كان للسوريين دور في كتابة بعضها بطريقتهم الخاصة. وسيُروى دوماً أنه في تلك البلاد التي تتمزق اليوم بحربها كانت ضحكة غوار وحسني وأبو عنتر حاضرة، وجمالُ إغراء وفتنة ورغدة وصباح وسامية الجزائري وغيرهنّ من النجمات مبهِراً، وأن القضايا التي نادت بها كانت جزءاً من قضايا عربية وهَمٍّ مشترك.

لمشاهدة المزيد من الملصقات، يرجى زيارة مجموعة ملصقات الأفلام السورية لدى ملصقات أضواء المدينة.



جوان ملا صحفي وناقد فني ومُعِدّ برامج سوري. يعمل جوان في الصحافة الفنية منذ عام 2016، وهو مشرف تحرير في منصة ET Syria الفنية الإخبارية، ومُعِدّ برامج في قناة العالم سورية، بالإضافة لكونه صحافي محرر في مواقع ومجلات مختلفة منها رصيف 22، ومجلة فن وناس، وموقع نص خبر. كما يشغل جوان منصب نائب الإدارة والعلاقات العامة في مؤسسة المشهد الأول التي تُعنى بتدريب الشباب على الفنون الثقافية والفنية والأدائية.

اشترك في قائمتنا البريدية لتصلك آخر المقالات وإصدارات الملصقات والعروض الخاصة.

Share this
Older Post